وضعت باقة الياسمين في مزهرية أخرى .
أحضرت القهوة ونورا ترقبني بعيون يقظة، وتنتظر المناسبة لتبدأ حديثاً يعيد الألفة إلى المكان، ويبدد هذه الوحشة التي تطبق على كل شيء، فتولد في النفس إحساساً بالجلال والخوف والترقب لما يمكن أن يحدث.
أغلقت باب الغرفة، فامتّد جناح من العتمة الشفافة فأصبح للموجودات ظلال سرّية، تلّف الكراسي والمنضدة والستائر والنباتات الشوكية المتناثرة من حولنا حيث قللت من شراستها وغابت أشواكها .
كنا نجلس متقابلتين ،وجها لوجه، الغرفة تتحول إلى كهف خرافي. وحين سكبت القهوة السوداء فاحت رائحة الهال، وتصاعد منها بخار عذب فقلت:
- القهوة تسحرني
فردت نورا بخبث:
- القهوة فقط؟
فضحكت ضحكة مدوية ... وقلت بالطريقة نفسها :
- القهوة فقط لا شيء آخر.
- يالك من خبيثة مكابرة .
- خذي وتذوقي أروع قهوة في العالم .
قلت وناولتها فنجانها، ثم أشعلت لفافة لي وأخرى لنورا ثم بدأنا شعائرنا وثرثراتنا المعتادة، وسط دوائر الدخان والقهوة والعتمة السائدة
- هذه العتمة خانقة .
قالت نورا .. فأجبتها :
- على العكس، إنني أراها جذابة ورومانسية .
- وهذه الشوكيات؟
- انهن فاتناتي .
- هكذا أنت تجدين السحر والفتنة بين الشوكيات والعتمة والسلاحف . وماذا أيضاً ؟
- يكفي ذلك .
وضحكت، تناولت فنجان القهوة فتسللت حرارته إلى أصابعي ورشفت منه قليلاً ثم تمطقت بصوت عال، بينما تابعت نورا تساؤلاتها المعتادة :
- من أين جاءك كل هذا المرح؟ من يرك يظن قلبك خالياً
- من قال لك أن قلبي ليس خالياً؟
- أنا أعرف الناس بك .
- ماذا تريدين ؟ قولي.
- فؤاد ...
ولسعتني الكلمة، تجمدت في مكاني، وسكتت نورا قليلاً تراقب رد الفعل عندي، ولكن العتمة على ما يبدو ساعدت على إخفاء ما اعتراني .. فتابعت :
- فؤاد يريد..
-بربك .. اسكتي .
قلت ثم تابعت رجائي
- نورا .. أرجوك .
صدر الصوت من أعماق صدري كالفحيح، فأخافني ذلك كما أخاف نورا التي لولا سذاجتها لكفت عن الكلام، فهي تعرف أنها لمست جرحاً طرياً في داخلي طالما عانت منه كبريائي، فلا شيء يمكن أن يجرح المرأة مثل الخيانة، إنها حينذاك تتوفز كاللبوة الجريح .
- أنا أريد...
- نورا ... قلت أرجوك، لقد دفنت الماضي وأريد أن أعيش حاضري بهدوء.
- ولكن .
- بدون ولكن ...
قلت بحسم، وساد الغرفة صمت متوتر، وامتدت أصابعي في العتمة ترفع علبة الدخان وتستل منها لفافة جديدة تشعلها بينما تسحق بقية اللفافة المحترقة في المنفضة، وكانت أنفاسي تضيق وكأني أحسّ غباراً قديماً يثور، يلفّ روحي بكفن رقيق وأنا في شبه غيبوبة .
مضت دقائق، وبدأ الهدوء يعود إلى أعصابي، فلعبة ضبط الأعصاب اتقنتها منذ زمن وها أنذا أعود إلى ممارستها فألبس وجهي قناعاً رسمت عليه ابتسامة جذابة . وقلت:
- نورا ... اسمعي ،فؤاد دمر شيئاً ولا يمكن لأية قدرة أن تعيد خلقه من جديد، ودمّره ببلاهة وخبث من أجل مكاسب صغيرة وأنا صحيح شفيت من جراح القلب، ولكن كيف أشفى من جراح الروح ؟ كيف يا نورا؟
- أنا أقول...
- لاتقولي شيئاً.
وامتدت أصابعي برشاقة وبرود تضرب صينية القهوة، فتحطمت الفناجين والصحون واختلط الماء بالقهوة وبقايا الزجاج والدم . وحين رفعت أصابعي كان الدم يقطر دافئاً من ثلج بارد ثم صرخت بنورا:
- أية قوة في العالم تستطيع أن تعيد هذه الأشياء إلى ما كانت عليه قبل لحظات ؟ بالتأكيد لا يوجد .
- أنت مجنونة.
صاحت نورا وهي تنهض ... بينما تعالى ضحكي في فضاء الغرفة يبدد هدوء العتمة التي بدأت تتكاثف .